جامعة أحمد دراية - أدرار
الجامعة الإفريقية سابقا

“الفقَّارةُ”قِوامُ الحياةِ في الواحاتِ

رغم أنَّ منطقة تَوَات تقع في مركز طرق الملح والتبر، وكانت ملتقى القوافل التجارية قديماً، ونقطة عبور هامَّة بين الحواضر والأسواق الكبرى، على غرار: تلمسان، سجلماسة، وارجلان، غدامس، ولاته، تينبكتو… ،

غير أنَّ ازدهارها ارتبط أساساً بكونها واحةً كبيرةً، اشتهرت ثروتُها الزراعية بفضل نظامٍ هيدروليكي فريدٍ من نوعه.
تقع توات في عمق الصحراء الكبرى، والرمال هي المظهر التضاريسي الغالب على سطحها، إذا ما استثنينا مئات الواحات المنتشرة هنا وهناك، تحيط بها كثبان رملية عالية ومتحركة تتمثل في العرق الغربي الكبير وعرق شاش وعرق إيقدي، أمَّا من الجهة الشرقية فتحيط بها هضبة تادمايت، أكبر الهضاب الصخرية الجيرية الصحراوية، والتي ترتفع بـ 836م عن مستوى سطح البحر.لم يقف الإنسان التواتي عاجزاً مكتوف الأيدي أمام تلك الصّعاب، بل تحدَّى الرمال وطوَّع الحجارة، فإذا هي تشقَّق فيخرج منها الماء، وابتكر عجيبة فريدة في استخراج تلك المياه وتوزيعها، أصبحت نظاماً قائماً متوارثاً، يثير الدهشة والإعجاب،إنَّه نظام السقي بـ”الفقَّارة”.

الفقّارة مجموعة من الآبار المتسلسلة الموصَلة بعضها ببعض، تبدأ باثنين أو ثلاث من مكان مرتفع، وينتهي ماؤُها جارياً في ساقية على وجه الأرض.وكان العلَّامةُ ابنُخلدون(ت808هـ/1406م) ممَّن أُعجِبوا بالفقارة ونظامها، جاء ذلك في معرض حديثه عن قبائل المنطقة ونشاطِها قائلاً:” وفي هذه البلادِ الصحراوية غريبةٌ في استنباط المياه الجارية، لا توجد في تلول المغرب، وذلك أن البئر تُحفر عميقة بعيدة المهوى، وتُطوى جوانبها إلى أن يوصل بالحفر إلى حجارة صلدة، فتُنحَت بالمعاول والفؤوس إلى أن يرقَّ جرمُها، ثم تصعد الفعلة ويقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقَها على الماء، فينبعث صاعداً فيعمُّ البئر، ثم يجري على وجه الأرض وادياً، ويزعمون أنَّ الماء ربما أعجل بسرعته عن كلِّ شيء. وهذه الغريبة موجودة في قصور توات وتيكُرارين وواركلا وريغ. والعالم أبو العجائب، والله الخلَّاق العليم”.

وعن تاريخ الفقارة في توات يُشيرُ محمد بن المبروك الجعفري البوداوي (المتوفى بعد سنة 1312هـ/1895م) في مُصنَّفه “نقلُ الرواة عن من أبدعَ قصور توات” إلى قِدم هذا النظام،  قائلًا: “وأمَّا حفرُ الفقاقير بتوات فمنه ما هو قديم العمر، ومنه ما هو حادث، وقد رأيتُ تقييداً منقولاً بخطِّ العلاَّمة الشيخ سيدي عبد الرحمن بن بَّاعمر ناقلاً له من كتاب عمِّ والده الشيخ سيدي أحمد بن يوسف التنلاني حين تكلم على من سبق بعمارة توات من زناتة قال: وهم الذين اتَّخذوا خدمة الفقاقير وابتداعها بحرفةٍ لم يسبقهم غيرُهم إليها. وحيث بلغوا من ذلك مقصودَهم اصطلحوا على تسميتهم بالفقاقير على ضربٍ من الشَّبه، لأنَّ الشيء يشبه الشيء، فشبَّهوا صفة الفقَّارة بصفة فقارة الظَّهر من كلِّ حيوان له فقارة، فأخذَها عنهم مَن بعدَهم، وصارت حرفة شائعة معروفة عند ذويها إلى الآن”.

يُعضِّد ذلك الرأي في تسميتها ما جاء في لسان العرب لابن منظور من أنَّ الفقير من أسماء البئر، وأنَّها تُجمَع على فُقُر وهي الآبارُ المجتمِعةُ، الثلاثُ فما زادت، تُحفَر وينفُذُ بعضُها إلى بعض. وقول القائل “فَقِيرٌ من فُقُرِها” بمعنى “بِئرٌ من آبارِها”.في حين نقل الشيخ مولاي أحمد الطاهري الإدريسي التواتي (ت1399هـ/1979م) في كتابه نسيم النفحات القول بأنَّ أصل الفقارة أو كتابتها الصحيحة هي”الفجّارة”، من تفجير المياه أثناء حفر الآبار.
وفي موسوعة أطلس المستعمرات الفرنسية Atlas des colonies françaises تعريفٌ موجز للفقارة مؤدَّاهُ أنَّها “مفردُ feggaguir، وهي سلسلة من الآبار المحفورة على منحدر، تربطها قنوات تحت الأرض، تجلب المياه المتدفقة من الآبار العلوية، أو من البئر الأم”.تتغذَّى مياه “الفقارات” أو “الفقاقير” من المخزون المائي الجوفي الضخم المتكوِّن عبر قرون، وأيضاً من مياه الأودية الثلاثة، التي تتقاطع في واحات وسبخات توات:
*وادي امقيدن:المنطلق من منبعه في القُليعة (المنيعة)، المنتهي بمنطقة تيكورارينمكوِّنا سبخة قورارة. ذكره الرحالة المغربي أبو سالم العياشي (ت1090هـ/1679م) باسم وادي ايمكيدن، مندهشاً من غزارة مياهه وكثرة معاطنها، ومن افتخار السكَّان به وبمائه العذب الرقراق. يقول العياشي: “ومعاطن المياه كثيرة في هذا الوادي، قلَّ ما يخلو يوم من منهل، وماؤه عذب غزير، وفيه يقول أعراب ذلك البلد:
وَادْامْكِيدَنْ مَا نَعطَشْ فِيهْ
كُلّ يـَوم نْجِـيـهْ علَى مـَاء
*وادي مسعود:يعتبر امتداداً لواد الساورة الوافد من جهة الشمال، أمَّا واد الساورة فهو بدوره مجمع لواديين كبيرين هما: واد قير وواد زوزفانة.عندما يصل واد مسعود إلى قصور تاسفاوت ــ جنوب غرب تمنطيط ــ يكوّن سبخة كبيرة، وبعد اختراقه لهذه السبخة يتجه نحو مقاطعة رقان غائراً في سهل (رقِّ) تنزروفت.
*وادي قاريت:ينطلق من الشمال الشرقي لتيدكلت، مستفيداً من الانحدارات المتتالية لهضبة تادمايت، عابراً بعض أجزاء المنطقة، ليصُبَّ مياهه في الأخير بالجهة الجنوبية الغربية للإقليم، حتى يتصل في نهايته بوادي مسعود، ويصبح رافداً له.
يعتقد بعض الدارسين الفرنسيين لتطور الواحات الصحراوية ومنهم مارتان Martin أنَّ تقنية السقي بالفقارة كانت شائعة في إيران وأفغانستان من قبل، وإنَّما أُدخِلت إلى منطقة توات منذ القرن 11م/05هـ بفضلِ توافد هجرات برمكية (من أصولٍ فارسية)، بينما ترى دراسات أخرى بأنَّ أقدم أثرٍ لنظام الفقارة يعود إلى الكنعانيين منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، والمرجَّح أنَّ ساكنة توات عرفوا هذا النظام منذ أمدٍ بعيد، لأنَّه مرتبط بعمارة الإقليم، وتشكُّل الواحات أو تجمُّعات القصور… وفقارة “هنو” القديمة بحاضرة تمنطيط العريقة خير دليل على ذلك.

تقوم قاعدة استخراج الماء في نظام عمل الفقارة على اختيار نقطة المنبع أو البئر الأمّ في أعلى المنحدر من طرف الخبير (المعلَّم أو المقاني)،ثمَّ حفر وتهيئة قنوات تحت الأرض تسمى “النفاد”، تتخلَّلها مجموعة من الآبار (أو الحسيان) للتنظيف والصيانة، على أبعاد متقاربة بمعدَّلاتتقارب 08م، تُعرف هذه القنوات مع فتحاتها باسم “اغسرو”. بينما تحمل “الساقية” المياه المستخرَجة إلى البساتين أو “الجنانات”، مروراً بحوض “القصرية” حيث تتحدَّد الأنصِبةوالمقاسات، وصولاً إلى “الماجن” مَجمَعِ المياه للري الزراعي المنظَّم.والملاحظ أنَّ معظم “الفقارات” في توات موجَّهة من الشرق إلى الغرب، حيث ترتبط الواحات متسلسلةً على خط واحد في شكلِ منخفضٍ أو سبخة… وفي حالات نادرة يكون مسارها من الجنوب نحو الشمال.

وحدة قياس الأنصبة من مياه الفقارة هي “الحَبَّة”، وهي حسابياً: كمية الماء المتدفق من خلال ثقب بحجمٍ معين لمدة 24 ساعة، مع العلم أنَّ أبعاد تلك الحفر تتراوح بين 09 و27 ملم، توكل مهمة ضبط المقادير المعقَّدة في تفرُّعات “المشتة” إلى الخبير بذلك وهو “الكيَّال”. يتمُّ إنشاء سجل لكل فقارة لتحديد أسماء المستفيدين من مياهها ومقادير استفادتهم يسمى “الزمام”.

تتمُّ عملية التنقية أو إصلاح ما تهدَّم من الآبار بفضل “التويزة”، ذلك العمل الجماعي التلقائي الذي صار في عُرف أهل توات واجباً مقدَّساً لا مناصَ من أدائه، بل أضحى رمزاً للانتقال نحو “مجتمع الفقارة” المنظَّم البديل للمجتمع القبَلي المتشرذِم.
وفقاً للوكالة الوطنية للتسيير المدمج للموارد المائيةAGIRE فإنَّ العديدمن الفقارات لاتزال قيدالاستخدام حتى اليوم. وقدأظهرمسحٌ تمَّفيعام 2016م أنه من بين 2000 فقارة في واحات توات وقورارة وتيدكلت، لا زالت 672 وحدة منها وظيفية. تستمر هذه”الفقارات الحيَّة”في النشاط بمتوسط​​ معدَّل تدفق يقدَّر بـ 1,8 م3/ثانية.
في عام 1950م قُدِّر الطول الإجمالي لفقارات توات بحوالي 2000 كلم، وبلغ معدَّل تدفق “الحبة” الواحدة 04 لتر في الدقيقة،ولم يكن عدد السكان حينَها يتجاوز 40 ألف نسمة… واليوم تضاعفَ عدد السكان عشرَ مرَّات، ورجعت مع الأسف منظومةُ السقي المعتمِدة على “الفقارة” القهقَرَى!
الدكتور: أحمد بوسعيد
قسم العلوم الإنسانية

 

مقالات ذات صلة ...